يُقبل حي القياعة في صيدا على تحوّلات جديدة بسبب التخطيط لمشروعين لا يزالان قيد الدرس اليوم، حيث تم تكليف المهندس مصطفى فواز بالعمل على هذين المشروعين بالتوازي. المشروع الأول هو مشروع الضم والفرز في شرق الوسطاني والذي يتضمن أجزاء من حي القياعة. أما المشروع الثاني فهو تنفيذ لمخطط العام 1967 والذي يقضي بتوسيع طريق السلطانية (النافعة) التي تمر في وسط حي القياعة.
نتيجة لهذين المشروعين، سوف يتم تقسيم حي القياعة إلى ثلاثة أقسام تفصل بينها طرقات يصل عرض احداها إلى 25 متراً. إضافة إلى ذلك، تتضارب هذه التخطيطات مع مجموعة من بيوت الحي أو أجزاء منها، مما سيؤدي إلى إزالتها جزئياً أو بشكل كامل لتنفيذ المشروعين، فضلاً عن استقطاع حدائق بعض البيوت.
يُطرح موضوع إنشاء الطرقات وتوسيعها داخل حي القياعة على الصعيد الرسمي كضرورة تخدم المصلحة العامة في صيدا وهي تسهيل حركة سير السيارات داخل المدينة. يتخلل هذا الطرح مجموعة من الإشكاليات والأسئلة: هل سوف تحل مشاكل السير الحالية والمستقبلية نتيجةً لهذه المشاريع؟ ألا يتوجب إيجاد مسارات بديلة للسيارات يمكن إنشائها داخل منطقة الضم والفرز التي تزيد مساحتها عن 1200 كلم2 ، عوضاً عن إيقاع الضرر بالأحياء المحيطة بها؟ ألا يعتبر النسيج العمراني والتراثي والطبيعة المتواجدة في حي القياعة من أولويات مدينة صيدا أيضا؟ وما هي آراء أهل القياعة أنفسهم حيال هذين المشروعين، وما هي أولوياتهم بالنسبة إلى حيّهم؟
يعتبر حي القياعة من أقدم الأحياء “الحديثة” والتي أنشأت حينما بدأت المدينة بالتوسع خارج أسوارها التاريخية في خمسينات القرن الماضي. يقع الحي على ضفتي الحدود بين بلدية صيدا والهلالية وبالقرب من أهم المواقع الأركيولوجية في صيدا والمعروفة بالمقبرة الملكية والتي أستخدمت آثارها في تأسيس المتحف الوطني في إسطنبول سنة 1890. ويتكون الحي من مجموعة من البيوت التراثية التي تقع وسط البساتين وأخرى حديثة تتخللها حدائق صغيرة مطلة على طريق السلطانية.
يحظى الحي بنسيج إجتماعي قوي ومترابط، فأغلب أهالي المنطقة ورثوا بيوتهم وأراضيهم وعاشوا فيما يسمى ببيت العائلة وهم متمسكون بالمكان، حيث يقول م.ح: ” بكل زاوية بهيدا الحي عندي ذكريات بالصغر … واتجوزت وصار عندي ولاد وما فكر إطلع منها أبدا … وهلق ولادي بس يتجوزوا بفضلوا يفتشوا عبيت هون بالقياعة”.
ولحي القياعة رمزية خاصة في تاريخ المدينة، خصوصاً عندما نتذكر دور هذا الحي في مقاومة الإحتلال الإسرائيلي في صيدا سنة 1982 – 1985. فقد كانت زواريب القياعة والبساتين المحيطة بها شاهدة على بدايات العمليات العسكرية لمقاومة العدو الإسرائيلي. فقد نفذت أهم العمليات ضد الإحتلال الإسرائيلي في الحي في 27 كانون الأول عام 1983، حيث تم فيها الإشتباك مع لواء النخبة “غولاني” واستمر إلى أكثر من ست ساعات، وأسفرت العملية عن مقتل ضابط وجنود من اللواء بالإضافة الى الجرحى. استشهد في العملية جمال الحبال ومحمود زهرة ومحمد علي الشريف، ولم تسمح حينها قوات الإحتلال لعائلات الشهداء بتشييع الشهداء وذلك بقوة السلاح. وقد سمي مصلى حي القياعة بمصلى “شهداء القياعة” تخليداً لبطولات الصمود والمقاومة في وجه العدو المحتل الذين روت دماءهم بساتين هذا الحي وزهوره.
ويتميز الحي بضيق طرقاته وتواجد الزواريب بين الأبنية، ما يحتّم على السيارات التي تمر داخل الحي التخفيف من سرعتها وهذا ما يسهل حركة المشي داخل الحي ويشجعها. وقد عبر عدد من أهالي الحي عن قلقهم من شق وتوسيع الطرقات حيث سيزداد عدد لسيارات وسرعتها فيما هي تمر فيه وبالتالي يزيد من نسبة الضوضاء والتلوث بالإضافة إلى مخاطر الحوادث على الأطفال والمشاة. ويقول م.ح: “نحنا مضينا اعتراض للبلدية لما عرفنا بتخطيط الطريق.. ما بدنا تروح بيوتنا وجنيناتنا..هيدي المنطقة الكل بيرغب يسكن فيها.. أروق مكان بصيدا ومتل متنفّس أخير بالمدينة، لا غبرة ولا ضجة”.
ويؤكد مختصو تخطيط المدن مخاوف وأولويات أهل القياعة، خصوصاً بعد مراجعة تأثير مشاريع توسعة الطرقات التي نفذت في لبنان ومدن عالمية على نوعية الحياة في المدن وتأثيرها السلبي في تفتيت النسيج الإجتماعي للأحياء المتضررة. فبالإضافة إلى تدمير الطابع الجمالي للأحياء والقضاء على دور الطرقات كمساحات إجتماعية، فشلت هذه المشاريع في حل أزمات السير التي تفاقمت مع الوقت بسبب توسيع الطرقات.
من منطلق آخر، تخوف العديد من الأهالي وأصحاب المحلات من تلك التخطيطات التي سوف تضرب بيوتهم ومحلاتهم جراء المشروع المقترح، وإعتبروا أن التعويضات المالية لا تمكنهم من إيجاد بديل عن مسكانهم أو محالهم التجارية، حيث أكد أحد الأطباء في المنطقة أن نقل عيادته خارج الحي سيقلل من مستوى الخدمات الصحية المتواجدة فيه، وإستبعد آخرون إمكانية تعويضهم عن مؤسساتهم التجارية في الحي بعدما أصبحت معروفة لدى العابرين والقاطنين في تلك المنطقة. إضافة إلى أن التعويض المالي من خلال الإستملاكات يشكل مشكلة بحد ذاته، حيث أن قيمته أدنى من قيمة العقارات والبيوت المادية الحقيقية وهي عملية معقدة وطويلة عادة ما تتخللها محاكم واعتراضات تجهد وتقلق أصحاب العقارات المتضررة.
من جهة أخرى يرى بعض الملاك والمطورين العقاريين أن هنالك منفعة من توسيع الطريق، خصوصا عندما تصبح عقاراتهم على طريق عام عريض ما يرفع من قيمة العقار المادية على المدى البعيد. بالعودة إلى الواقع يختلف معظم سكان الحي الذين يعيشون ويعشقون حيّهم مع هذا النوع من الأولويات حيث عبروا عن استيائهم من موضوع التعويض وتكلموا عن تجارب سيئة سابقة وقالوا “الإستملاكات بمنطقة الحسبة وغرب الوسطاني راح فيها ضحايا كتير وانظلمت عالم وما أخدوا حقهم بالكامل.. والعملية بتتطلب محاكم واستئنافات ووقت كتير”.
ويسبب مشروع توسيع طريق السلطانية أضراراً لمعالم تراثية وبيئية موجودة في حي القياعة خاصة تلك المعالم التاريخية الممتدة على طريق السلطانية. فأحد المباني المتضررة من مشروع توسيع طريق السلطانية الى 25 متر هو مصلى شهداء القياعة والذي يعتبر من المباني التراثية في الحي. والمصلى هو أيضا ملتقى عام لكل الأهالي مع اختلاف أعمارهم ومستوياتهم الثقافية، فهو يجمعهم خارج أوقات الصلاة أيضا كما كرر أحد ج.ح قائلا: “المصلى هو القلب الأساسي لقياعة وهو متاح للجميع بأي وقت”.
من ضمن هذه المعالم تبرز قناة الخاسكية التاريخية التي كانت تجر مياه نهر الأولي إلى بساتين صيدا، والقياعة وصولاً حتى المدينة القديمة. ويطالب بعض سكان المنطقة بإعادة تشغيل تلك القناة من أجل ري بساتينهم، فهي تقلل من نفقة السقاية للأشجار والمزروعات وقد عبر عن ذلك ي.ق وهو أحد أصحاب البساتين بالقول: “اذا بترجع تشتغل القناية بتكلفني 30 ألف ليرة بالسنة أما الآن فأنا بدفع 30 ألف ليرة بدل الساعة لما عم بستخدم مياه البير الإرتوازي” .
إضافة إلى ذلك، سوف يتسبب مشروع توسيع الطريق بإزالة مجموعة من الأشجار المعمرة، وحيطان الدعم التاريخية وبعض البيوت التراثية والخانات المتواجدة على ضفتي هذه الطريق التي لطالما تميزت بجمالها وإطلالتها على سهل الوسطاني، وكانت بمثابة المتنفس للمشاة من سكان القياعة وخارجها كما تروي ش.ح وهي إحدى كبار السن في الحي قائلة: “من خمسين سنة كنت دايما أنا وصحباتي نتمشى على هاي الطريق وكانت كزدورتنا الوحيدة… كان يقلنا بيّي تمشّو بالبساتين وما تبعدو أكتر من طريق السلطانيّة”.
يمكن القول أن أبناء القياعة ما زالوا تائهين حول كيفية التصرف حيال هذين المشروعين، فقيام بعض أصحاب البيوت المتضررة في القياعة من جراء تخطيط الضم والفرز بتقديم عدة شكاوى رسمية للبلدية لم تأت بجديد. مثالا على ذلك حالة ي.ق وهو أحد سكان القياعة الذي إكتشف، بعد إطلاعه على مشروع الضم والفرز، أن احدى الطرقات المقترحة تصيب بيته بـ 3 أمتار عند التقاء هذه الطريق بطريق السلطانية، ما يجعل مبناه، المؤلف من أربع طوابق ويسكنه ثلاثون شخصاً، غير صالح للسكن. تقدم المالك بإعتراض رسمي للبلدية لكن محاولته بائت حتى الآن بالفشل فلم يحصل من الجهات المختصة في البلدية ومكتب التنظيم المدني في صيدا على اي تفسير مقنع لخسارته أو حل لمشكلته رغم انقضاء زهاء سبعة أشهر.
أما المتضررين من مشروع توسيع طريق السلطانية فهم أكثر حيرة، وخصوصاً أن معظمهم يعتبرون أنهم لم يتبلغوا رسمياً بالمشروع حتى الآن. ويقول أ.غ : ” أنا على شو بدي إعترض إذا ما تبلغت رسميا”. كما يعتبر البعض أن تخطيط طريق السلطانية مر عليه أكثر من خمسين عام ولم يُنَفَذ بعد خلال كل هذه الفترة (وذلك لعدم توفر التمويل اللازم للإستملاكات)، فإن عدداً من الأهالي محتارون ويشككون فعلياً إن كان التخطيط سوف ينفذ قريبا أم لا. أما من وجهة نظر تقنية، فاليوم هو الوقت الأنسب لنقاش موضوع التخطيطات التي تصيب حي القياعة – خصوصاً أن التخطيطان هما في طور التعديل والدرس وهذا يسهل إمكانية وضع أولويات أهل حي القياعة من ضمن عملية التخطيط والتصميم للمشروعين بدلاً من الانتهاء من التصميم وانتظار إعتراضات الناس لاحقاً، مباشرة قبيل تنفيذ المشروع.
إن فتح هذا النقاش اليوم يمهد لإيجاد حلول بديلة عن قضم حي القياعة، خاصة أن مشروع الضم والفرز في شرق الوسطاني، والذي تزيد مساحته عن 1200 كلم2 ، هو ملاصق لهذا الحي. في هذا السياق، من المهم السعي لتصميم طرقات بديلة لتحويل السير وخلق شبكات بنية تحتية تحتاجها المدينة عوضاً عن تغيير معالم طبيعيّة وأسلوب حياة أهالي الحي.
تتواجد على الأرض أمثلة جيدة حول قدرة الأهالي في التأثير على سير مشاريع تخطيط طرقات إعتبروا أن أثرها سلبي على أحيائهمن ومن أهمها تجربة حملة “أوقفوا أوتوستراد فؤاد بطرس” حين اكتشف سكان الأشرفية تأثير هذا الأوتوستراد السلبي على حيهم فضلاً عن القيمة المتدنية جداً لتعويضات الإستملاك. عندها بدأوا بتحرك فعلي لتغيير المشروع وإيقافه وقد نجحوا في تجميد تنفيذ المشروع حتى السّاعة. وبالتزامن مع تلك الحملة طرحت رؤى بديلة لحل أزمات السير من جهة وتطوير أحياء الأشرفية لتصبح أكثر خضرة وأكثر راحة لحركة السكان من خلال إنشاء مسارات للمشاة والدراجات الهوائية وإيجاد حدائق عامة تربط حيهم مع باقي بيروت بدلاً من فصلها وتفتيتها من جهة أخرى.
يتمتع حي القياعة بقيمة عالية لدى ساكنيه إضافة لأهميته كجزء حيوي من المدينة بصفة عامة. لذا من المهم تحسينه وتطويره واستحداث مخططات جديدة تلائم إحتياجات سكانه بدلاً من تنفيذ تخطيطات قديمة لن تساهم في حل أزمة السير في صيدا بشكل كلي. كما أنه لا يمكن تجاهل أهمية الحفاظ على القِيم الإجتماعية والعمرانية والجمالية الموجودة في الحي، والسعي لإبرازها والإفتخار بها.